أستانا والدوحة وسقوط الأسد- سوريا بين التسويات والتحديات الجديدة

في أجواء بالغة التعقيد، انعقد اجتماع الدول الضامنة لمسار أستانا، وهي تركيا وإيران وروسيا، في الدوحة. كان هذا الاجتماع يمثل بصيص أمل أخيراً لإنعاش عملية سياسية حقيقية بين الحكومة السورية والمعارضة، لكن جهود الحاضرين لم تسفر عن أي اتفاق أو تفاهم ملموس، مما أدى إلى انهيار نظام الأسد ودخول مقاتلي "ردع العدوان" إلى قلب العاصمة دمشق.
رؤى متباينة
أدت الثورة السورية التي اندلعت في عام 2011 إلى وضع العواصم الثلاث في مواقف متضادة، حيث قدمت أنقرة دعمها القوي للمعارضة السورية، بينما أعلنت موسكو وطهران وقوفهما الراسخ إلى جانب النظام الحاكم. وقد شهد عام 2015 ذروة التوترات والتصعيد بين الأطراف المتنازعة، تجسدت بشكل خاص في أزمة إسقاط الطائرة المقاتلة الروسية.
ومع ذلك، أرسى مسار أستانا الذي نشأ في أعقاب معركة حلب في أوائل عام 2016، أسسًا لنهج تنسيقي بين الدول الثلاث، بهدف منع وقوع صدام مباشر بينها وفتح آفاق جديدة للتفاهمات حول القضية السورية المعقدة.
في شهر مايو/أيار من عام 2017، وخلال الجولة الرابعة من محادثات أستانا، اتفقت الدول الضامنة الثلاث على إنشاء أربع مناطق لخفض التصعيد بين النظام والمعارضة. إلا أن النظام، وبدعم حاسم من حلفائه، تمكن من السيطرة على ثلاث من هذه المناطق، لتتبقى إدلب وحيدة، والتي تضم بدورها مجمل أطراف المعارضة وتستضيف الملايين من المدنيين.
لاحقًا، اضطرت أنقرة إلى تفكيك بعض نقاط المراقبة التابعة لها في شمال سوريا، وذلك بسبب الحصار الذي فرضته قوات النظام عليها. واستمر النظام في شن هجماته المتواصلة على إدلب، على الرغم من التحفظات التركية المتكررة والتحذيرات الشديدة من سيناريو الانفجار الشامل.
في الأشهر الأخيرة، طرحت أنقرة، على لسان الرئيس أردوغان، مبادرة لتطبيع العلاقات بين الجانبين وتطويرها، إلا أن النظام اشترط انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، وتخلي أنقرة عن دعمها للمعارضة. وأشارت تركيا أيضًا إلى أن إيران لم تشجع الأسد على المضي قدمًا في هذا المسار.
بعد انطلاق عملية "ردع العدوان"، تصادمت رؤى ومواقف الدول الثلاث مرة أخرى. ففي المؤتمر الصحفي المشترك الذي جمع بين وزيرَي خارجية إيران عباس عراقجي والتركي هاكان فيدان في أنقرة، أرجع الأول ما يحدث إلى تدخلات خارجية تدعم منظمات إرهابية، بينما أكد الثاني على أنها تطورات داخلية ناتجة عن إدارة النظام ظهره للحل السياسي.
وفي تصريحات لاحقة صدرت من موسكو وطهران، كان هناك اتهام مبطن لأنقرة بأنها تقف وراء العملية وتدعم "إدارة العمليات العسكرية" دون تحميلها المسؤولية بشكل مباشر وصريح، حتى أن بيانًا صادرًا عن الخارجية الإيرانية أعرب عن الأسف "لوقوع تركيا في الفخ الأميركي الإسرائيلي".
اجتماع الدوحة: لا يوجد اتفاق
في ظل هذه التطورات المتسارعة، برزت الحاجة الماسة إلى تفعيل مسار أستانا مرة أخرى في اجتماع ثلاثي عقد على هامش منتدى الدوحة، خاصة وأن الدول الثلاث أكدت على إمكانية وضرورة الحل السياسي للأزمة السورية.
شارك في هذا اللقاء وزراء الخارجية فيدان وعراقجي ولافروف، وتمحورت تصريحات الوزراء الثلاثة حول نفس المعاني تقريبًا، وإن بصيغ وأولويات مختلفة، والتي أكدت على ضرورة وقف الأعمال العسكرية والعودة إلى المسار السياسي، والتأكيد على وحدة الأراضي السورية. وأشار عراقجي إلى أن إيران وروسيا تجريان مناقشات مع الحكومة السورية حول مخرجات الاجتماع.
عقب الاجتماع الثلاثي مباشرة، عُقد اجتماع موسع ضم إلى الدول الضامنة الثلاث كلًا من قطر، ومصر، والسعودية، والأردن، والعراق، وشهد مشاركة وزراء خارجية الدول السبع، بالإضافة إلى ممثل عن روسيا.
وفي البيان الختامي الذي نشرته وزارة الخارجية القطرية، أكد المجتمعون على ضرورة وقف العمليات العسكرية "تمهيدًا لإطلاق عملية سياسية جامعة استنادًا إلى قرار مجلس الأمن رقم 2254، تحفظ وحدة وسيادة سوريا واستقلالها وسلامة أراضيها، وتحميها من الانزلاق إلى الفوضى والإرهاب".
عند تحليل مخرجات الاجتماعين، يتضح أن الاجتماع الأول لم ينجح في التوصل إلى تفاهم أو صيغة مشتركة بين الدول الضامنة الثلاث، مما أوجد الحاجة إلى الاجتماع الموسع. كما أن العبارات الفضفاضة التي صيغ بها البيان الختامي لاجتماع الدول العربية الخمس مع دول أستانا، مع الإشارة إلى "استمرار التشاور والتنسيق الوثيق للوصول إلى حل سياسي"، تشير بوضوح إلى أن اتفاقًا يحظى بدعم جميع هذه الأطراف لا يزال بعيد المنال في هذه اللحظة الراهنة.
ويعني ما سبق أن الكلمة الفصل تركت للميدان، الذي يشهد تطورات متسارعة بطريقة غير مسبوقة. فبمجرد انتهاء الاجتماعين، أعلنت "إدارة العمليات العسكرية" إتمام السيطرة على كامل مدينة حمص. وقبل صباح اليوم التالي، أعلنت "إدارة العمليات العسكرية" عن دخول دمشق وسقوط النظام، لتدخل سوريا والمنطقة بأسرها في مرحلة جديدة بالكامل.
ما بعد الأسد
من بين الإيجابيات البارزة لعملية "ردع العدوان" وما تلاها من تطورات، وصولًا إلى دخول دمشق، سلاسة الأحداث وسرعتها وعدم وقوع مواجهات كبيرة، والخطاب الهادئ الذي رافقها، بحيث لم تسجل مظالم كبيرة أو تجاوزات كثيرة، مما يسهل الخطوات المقبلة داخليًا.
تخبرنا التجارب السابقة في سقوط الأنظمة، ولا سيما الدكتاتورية منها، أن سقوط النظام ليس النهاية، وإنما بداية مرحلة جديدة مختلفة تمامًا وبتحديات جديدة عديدة.
في مقدمة تلك التحديات تبرز إدارة الفترة الانتقالية، والمرور نحو تأسيس نظام جديد، وكيفية إدارة المؤسسات وتقديم الخدمات من قبل من كانوا حتى اليوم معارضة، وهو تحد كبير بعد نظام حكم استمر لعشرات السنين. بيد أن الخطاب الذي ساد حتى لحظة دخول دمشق يدعو للتفاؤل بإمكانية تخطي المرحلة الأولى دون عقبات كبيرة.
بيد أن تأسيس نظام سياسي جديد يبقى تحديًا بالغ الأهمية في بلد متعدد الأعراق والأديان والمذاهب، وبعد ثورة وحرب داخلية استمرت لأكثر من 13 عامًا، وفي ظل وجود عدد كبير من الفصائل المسلحة، فضلًا عن الوجود الأجنبي المكثف.
وأما التحدي الثاني الذي لا يقل أهمية وحساسية، فهو الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، في ظل سيطرة قوات "ردع العدوان" على مناطق واسعة من البلاد، ولكن مع وجود فصائل وقوات أخرى على الأرض مدعومة بدورها من أطراف خارجية، وفي مقدمتها قوات سوريا الديمقراطية الموجودة شمال شرق سوريا والمدعومة أميركيًا، والتي وسعت مناطق نفوذها خلال الأيام القليلة الماضية بعد أن ترك لها النظام بعض مواقعه ومناطقه، فضلًا عن "غرفة عمليات الجنوب" جنوب البلاد، و"قوات سوريا الحرة" في الشرق، وغيرها.
وهنا، يبرز تعامل هذه القوى مع بعضها البعض كتحدٍ كبير، وهي التي حرصت على إظهار وجود تنسيق في مستوى ما فيما بينها، ولكن حالة التنافس بل والتسابق إلى دمشق كانت واضحة ولا تخطئها عين مراقب. فكيف يمكن إدارة هذه الحالة بين فصائل مسلحة ومسيطرة على الأرض، وتعتمد إلى جانب السلاح على دعم خارجي ملموس؟
ومن التحديات الكبيرة مستقبلًا خروج أو إخراج القوات الأجنبية الكثيرة من البلاد، وهو أمر ستقف أمامه عقبات جمة، حيث ستتذرع القوى الأجنبية بعدد من الذرائع لتمديد وجودها وتأجيل خروج قواتها، وستحاول إبرام تفاهمات مع السلطة الجديدة لشرعنة وجودها وإطالة أمده.
وتبقى "إسرائيل" تحديًا وعقبة كبيرة أمام سوريا الجديدة، وهي التي سارعت لتجاوز الحدود وحشد قوات النخبة في الجولان، وتستعد لإقامة منطقة عازلة، وربما احتلال جزء إضافي من سوريا. وكان وزير خارجيتها جدعون ساعر، قد أوضح موقفها بالقول إنها لا ترى النظام ولا المعارضة كأطراف جيدة بالنسبة لها، وإن "الأقليات هي حليفنا الطبيعي"، ما يعطي إشارات واضحة حول أولوياتها وعلاقاتها وتحالفاتها، ويطرح تحديات ومخاطر جمة في المرحلة المقبلة.
هنا، ستبرز للدول الثلاث الضامنة في مسار أستانا أدوار حاسمة في المرحلة المقبلة، تركيا في المقام الأول، وروسيا إلى حد كبير، مع تراجع ملموس لدور إيران. فالدول الثلاث لديها مصالح جمة وكبيرة في سوريا، وكذلك مصلحة مشتركة في استثمار الفترة الانتقالية في الولايات المتحدة والإسهام في دعم مسار سوري داخلي قبل دخول ترامب إلى البيت الأبيض الشهر المقبل، بحيث يكون عليه أن يتعامل مع أمر واقع، بدل أن يملك أريحية نسج سياسات يضطر الآخرون للتعامل معها من موقع رد الفعل.
ولعله من التحديات غير المعلنة حتى اللحظة أن اللاعب المسيطر على معظم سوريا، وهو "إدارة العمليات العسكرية"، يتشكل في معظمه من "هيئة تحرير الشام" التي ما زالت مصنفة كمنظمة إرهابية بالنسبة لعدة دول منها تركيا، ما يطرح تحديات إضافية على الفترة المقبلة سوريًا وعلى الدول العربية والإقليمية في التعامل معها كأمر واقع وكيفية رسم المسار السياسي المقبل في سوريا.